اضغط على ESC للإغلاق

لابس شراب!

في أحد صباحات ٢٠٢١ أوقفت سيارتي على طرف رصيف مقهى اوز88 على شارع أنس بن مالك، حملت لابتوبي ومشيت على الرصيف متوجهة للمقهى لانجاز عمل ما، كان يسير أمامي رجل يرتدي حذاء “فلات” وشراب صغير ملائم للحذاء .. بدون شعور علقت في داخلي: ياحظه لابس شراب!

يبدو التعليق في ظاهره تافه أو عديم قيمة أو حسود .. لكن الحقيقة أنه تعليق شخص مثقل بقلق يمنعه عن ممارسة أبسط أشكال الروتين اليومي.

هكذا القلق، يتلون ويدخل في أصغر تفاصيل الحياة، يأخذ شكل الصديق الخائف عليك أحيانًا، ويمارس في مرات أخرى دور أبوي بامتياز، وأسوء أدواره على الاطلاق عندما يقرر زيارتك على شكل أرق.

أوجعني موقف شراب الشاب كما فعلت الكثير من المواقف الأخرى، لكن هذا التعليق تحديدًا جعل عشرات الحوارات تبدأ داخل رأسي، فقدت الإحساس باللحظة وتصاعد توتري، حاولت المحافظة على هدوئي لكني فشلت وعدت للمنزل أبحث عن شراباتي المختبئة في الأدراج.

تعرضي لهذا الموقف صباحًا، أفسد بقية اليوم، بدأت الأخطاء في العمل تظهر بشكل متتالي نتيجة لضعف تركيزي، وبدأت بشكل لا ارادي أتعامل مع طفلي بعصبية، والأسوء بدأت مرحلة اجترار الأفكار السيئة عن حياتي، لتنقلب كل نعم الحياة لنقمة وكل تحدياتها لسوء حظ وكل تعثراتها لفشل أنا سببه.

هكذا تبدأ الحكاية في كل مرة لتنتهي بكم هائل من التعليقات والأحكام السلبية عن نفسي وسلوكي، وأنام محشوه بالتوتر الذي بشكل مباشر يؤثر على جودة النوم لأستيقظ صباحًا منهكة ومافيني حيل ألبس شرابي!

قررت في ذلك المساء معالجة القلق بشكل كامل -كما فعلت مئات المرات من قبل- وفكرت بكل التفاصيل: الرياضة – تمارين العقل – الحوارات الصحية – جودة الطعام … الخ.
وغرقت في مهام الحياة ونسيت الشراب وتعايشت بشكل مؤقت مع القلق.

الأحداث اليومية البسيطة قد تتحول لكوارث كبيرة بوجود القلق، مثًلا الخروج للحديقة قد يتحول من قرار بسيط عفوي لقرار معقد تتخلل عملية اتخاذه عشرات الخيالات عن ضياع طفلي أو سرقته.

خروح طفلي قبلي من المنزل بدقيقة واحدة من الممكن أن يقطع أنفاسي لثواني، لأن أول صورة تتبادر لذهني “سيارة مسرعة تدهسه”

قبل عدة أشهر كنت أتسوق وأنا أدفع عربة طفلي أمامي، بأقل من ثانية اختفى علاوي من عربيته، وبأقل من ثانية كنت أصرخ بأعلى صوتي في المحل، أصرخ بدون إحساس بأي شي آخر حولي، ولا حتى بيد علاوي الممسكة بعبايتي.

ركضت لي امرأة تحاول تهدئتي، بكى علاوي وتأسف عدة مرات لأنه نزل من العربية بدون استئذان، وتركني الموقف أفكر بهذا المسكين الذي سينشأ على القلق وكآنه جزء من تكوينه.

بكيت ليلتها لأني لا أتحكم بمشاعري، بكيت لأني خارج السيطرة وأعرف يقينًا أن ممارستي اليومية ستنعكس على أطفالي، احساسي بعدم الأمان المستمر سينعكس عليهم، ولن أقدم لهذا العالم سوا مجموعة من الأشخاص المتعلقين بأمهم، القلقين من الخروج عن النص.

أكتب هذه المواقف لأني أعلم أن بعضكم مر بها مرة واثنتين وثلاثة، لكن احساسكم بأنكم الوحيدين من زارتهم الفكرة، يجعلكم تشعرون بالغرابة، وأنا أيضًا شعرت بالغرابة الى أن اكتشفت أن الكثير يفكر بنفس الفكرة بالضبط، لكن لا أحد يشارك تجربته لأسباب عديدة وأعتقد أن أهمها خوفنا من حكم الآخرين عنا.

بدأت رحلة العلاج قبل سنوات من المواقف المذكورة في التدوينة، بدأت بشكل عفوي أثناء حديثي مع صديقة، لا أعرف كيف انعطف الحديث لنتكلم عن مخاوفنا حيث شاركتها أكبر مخاوفي في ذلك الوقت “تعرفين احنا لا سافرنا أحتفظ بالجوازات في شنطة جاهزة جنب الباب عشان لو صار حريقة ناخذها ونطلع” ومن هذا الحوار تحديدًا بدأت أتعرف على المشكلة، وجهتني لطبيب وكانت هذه الزيارة الأولى التي منها تغيرت الأمور للأسوء، عشت صدمة التشخيص لأشهر متصلة، كنت خايفة من الجاي، ولهذا كنت أغرق نفسي بالمهام والعمل والدراسة، دلني الطبيب على كتب ومقاطع فديو وتدوينات وكان هدفه من هذه الخطوة اقناعي بشيوع القلق وإمكانية الحياة بوجوده.

لا أذكر صراحة المراجع الآن، حدث هذا الأمر منذ وقت طويل تحديدًا في ٢٠١٣ أي قبل ١٠ سنوات تقريبًا، لكن سأختم التدوينة ب٥ نصائح ساعدتني في التعامل مع القلق:

١- أنا هنا والآن: تمرين عند تقاطعي معه في المرة الأولى شعرت أنه سخيف وبسيط وغير منطقي، وتملكني إحساس بالتفاهة وأنا أطبقه، لكن في الحقيقة من أصعب التمارين السلوكية، ببساطة فكرة التمرين تكمن في تهذيب تركيزك وحصره على اللحظة التي تعيشها، يعني أنا في المقهى مع أصدقائي ما أفكر بأي شي آخر غير هذه اللحظة الي أعيشها، وكل ماغير عقلي الدفه رجعتها للنقطة المركز “أنا في المقهى مع أصدقائي” وكل ماحاول عقلي التفكير بالغسيل المتراكم وقائمة المقاضي وواجبات الجامعة والخطة المالية للشهر القادم، أحاول أرجع عقلي للمقهى وجلسة الأصدقاء .. يحتاج هذا التمرين نفس طويل، أطول من ماتخيلون وأنتم تقرأون هذه الأسطر، يحتاج متابعة لحظية لنشاط عقلك وتركيزك، يحتاج جهد مضاعف عندما تتراكم المهام ويحتاج جهد أكبر عندما تمر بمنعطف نفسي أو اجتماعي.

٢- لاتقرأ مابين السطور: أي خذ الكلام من الشخص الي قدامك مثل ماقاله بالضبط، شخصيًا هذا التمرين أعتبره الأصعب على الإطلاق في رحلتي العلاجية، ببساطة يطلب منك هذا التمرين التوقف عن قراءة مابين السطور في كلام الآخرين وتعليقاتهم.

ليش الأصعب؟ لأن بعد مرور سنوات من التعامل والتقاطع اليومي مع مختلف أنواع وطبقات البشر، أعرف من بداية الحوار مالذي يرغب هذا الشخص في ايصاله، سواء كان مزحة برزحة أو تنبيه أو تهديد أو بس سواليف.

أتذكر أني قلت لمعالجة السلوك هذا التمرين يستغفلني! وردها علي كان صادم: العقل ماراح يفرق بعد فترة، هذي عادات/سلوكيات، تطويرها يخليك تكسبين راحة بالك.
فعلا، ليش أرهق نفسي بقراءة عقل الآخر؟
أتذكر مرة تواصلت معي صديقة كانت منهارة بشكل حرفي تشكو من مشكلة مع قريب لها، بدون وعي سألتها: وش قال لك؟
ردت: قالي انه ماسوا كذا.
قلت صدقيه وكملي حياتك!
تفاجأت من نفسي، حقيقي تفاجأت من نفسي .. في تلك اللحظة تجلت لي جلسات العلاج السلوكي التي بكيت فيها وكل لحظات “أنا مستحيل أتخطى” التي مررت فيها.
كلمتني صديقتي بعد عدة أيام تشكرني، قالت لي بالحرف الواحد: في حياتي مافكرت ان الفكرة هذي مريحة! صدقته وأنا أدري انه كذاب بس صدقته لأن هذا الي قاله لي وأنا مو مطلوب مني أكثر من اني أصدقه، الباقي بينه وبين ربه.
تعرفون وين الفخ في هذا التمرين؟ الموازنة بين متى أصدق ومتى ما أصدق .. وتمرين العقل على هذه الطريقة والتصالح مع النتيجة.

٣- مرن عقلك على الأفكار الإيجابية: أنا ضد النظرة لإيجابية المطلقة للحياة، وشمسك تشرق اذا ابتسمت وهذه الشعارات والعبارات غير المنطقية، لكن العقل يحتاج لتمرين مستمر ليعمل بكفاءة، مثلا خرجت في أحد أيام الصيف للعمل صباحًا وكانت درجة الحرارة +٤٠، تذمرك لن يغير حرارة الجو لكن تعليقك قد يصنع صباحك أو يعكره، يعني جرب تقول اليوم مناسب لسباحة الصغار، أو صباح مثالي لمشروب بارد بدل ماتقول أعوذ بالله كل السنة حر انشوينا!

هذا أبسط شكل للتمرين، قيسه على كل الأمور الأخرى الأكبر منها، مثلا قبل فترة زارتني قريبة في منزلي الجديد لأول مرة، دخلت للمنزل تركض بدون هدية ولا صحن حلوى ولا باقة ورد، آول ماجلست قالت: الزرع مرة كثير! والكنب يحتاج يترتب بطريقة مختلفة، ومدري فيه شي ناقص.

هنا طبقت تمرينين من التمارين الي تعلمتها: ١- أخذت الكلام مثل ماقالته بالضبط “لاتقرأ مابين السطور” ورجعت الموضوع لذوقها الشخصي وتفضيلاتها، والثاني “مرن عقلك على الأفكار الإيجابية” وبمزحة قلت لها بس لون الجدار حلو! وكمان الحديقة مش بطالة، ضحكت وأعتقد أنها استحت من تعليقها “يمكن”.

المهم لم يترك فيني الموضوع أي أثر سلبي، بالعكس انبسطت اني قدرت أطوع الموقف لصالحي، بينما في سنوات سابقة كنت بحس انها إهانة بحق نفسي وبيتي ووووو وبرد عليها رد جارح، بس فعلا الحياة لا تستحق والموقف أتفه من انه يأخذ من تفكيري حيز.

٤- وبعدين؟ : بايخ السؤال صح؟ أوعدكم ان بدأتم بسؤاله أنفسكم أثناء المواقف المزعجة بتقدرون تحددون شكل ردة فعلكم، مثلا الأسبوع الماضي حصل نقاش في العمل، ورد علي شخص مسؤول بطريقة غير مهذبة أمام فريق العمل، رد من المفترض انه يكون مزعج ويستحق تصعيد واعتذار .. سألت نفسي سؤال واحد بعد ماقرأت رده .. وبعدين؟ صار الي أنا أبيه بالضبط، ومشت المهام بتخطيطي وموافقتي، وكان رده فقط اثبات وجود وحرفيًا هرب بعده بدون أي ظهور، هل يستحق الرد على هذا الشخص جهد نفسي وذهني وعقلي؟ لا.

الحياة تمضي، ولو وقفت على رده وانتقمت لنفسي في نفس اللحظة لكان تعطل كل شيء وتراكمت المهام وعادت علي بطريقة سلبية والأهم تعكر مزاجي، لكن سؤال “وبعدين؟” خلاني أجلس وأفكر وأتخذ قرار سريع بالمضي، والتعامل مع الموضوع برواق.

٥- عبر عن مشاعرك: وهذه ليست جملة شائعة، أعنيها بالمعنى الحرفي لها، ان أزعجك موضوع ما أو رأي يخص حياتك عبر عن انزعاجك، ان ضايقك شخص في العمل أو الحياة بشكل عام عبر عن انزعاجك.

كانت ومازالت أكبر مشاكلي النفسية “التعبير عن المشاعر” وأتذكر مرة أثناء نقاشي مع صديقة عن الموضوع قالت بسخرية “من جدك؟ احنا تربينا ممنوع نعبر عن رأينا بالأكل الي ناكله، تبين ألحين أقول عجبني وماعجبني وأحب وأكره؟”

صح، تربينا في ظروف اجتماعية ونفسية صعبة لكن هذا لايعني الاستمرار، الآن عندنا حرية وسلطة والأهم “وعي” يخلينا نعرف نفلتر مشاعرنا ونعرف ايش الي ينقال منها وايش الي ماينتقل والأهم “كيف ينقال”.

حقيقة هذه ال ٥ تمارين ساعدتني بفضل الله في التجاوز والهدوء النفسي، ومازال عقلي يخونني في مواقف وأيام عديدة، لكن بشكل عام وعيي بهذه التمارين والأدوات خفف من حدة الأيام.

أتمنى لكم حياة طيبة وهادئة <3

التعليقات (13)

  • Reem Saudsays:

    27 فبراير، 2023 في 11:25 ص

    شكراً مشاعل على هذه التدوينة.. يالله قد ايش الواحد يحس انه وحيد بس لما يقرأ لأشخاص يشاركوا تجربتهم .. يحس بإنتماء و هذه طبيعتنا البشرية .. نمر بمعضلات ونتخطاها و الأهم نعرف كيف نتعامل مع المشاعر

  • سارهsays:

    27 فبراير، 2023 في 2:56 م

    أهنيك مشاعل على شجاعتك و صراحتك في موضوع أبد مب سهل الواحد يتكلم فيه عن تجربته الشخصية.. لمستي جرح عندي لما قلتي أعرف يقينا أني سأنقل هذا القلق لأطفالي (هاجسي و تأنيب ضمير مستمر)
    تدرين و أنا أقرأ مدونتك جتني فكره ، ليه ما يكون فيه مجموعة دعم بحيث يكون فيه لقاء للبنات اللي يعانون من القلق ندعم يعطنا البعض و نشارك بعض تمارين و عادات نسويها بيومنا تهذب من القلق.. لو مهتمه بلغيني نكون لنا مجموعة دعم

  • Hawazen AlOsaimisays:

    2 مارس، 2023 في 10:38 م

    شكرًا مشاعل على مشاركاتك الغير مفلترة و واضحه ولاتقرأ بين السطور و Raw دائمًا. تشبهنا وتشبه أيامنا ومشاكلنا اليومية وتحدياتنا، أتابعك من فترة في إنستقرام ولأنك لاتلمعين الواقع وتدعين المثالية.. أحب وأحرص على متابعتك.

    أنا أيضًا بتشخيص شخصي لكن واضح كل الوضوح أشعر بالقلق (الصامت المعيق على التركيز والتواجد بشكل كامل في كل مجالات الحياة أو الإستمتاع في حيث الان وحيث أنا)

    كتبتي أنك بدأتي رحلة العلاج من 10 سنين… إذًا هل القلق لا يزول أبدًا؟

  • منالsays:

    4 مارس، 2023 في 1:57 م

    شكرًا جزيلًا مشاعل على هذه التدوينة، لامستني من عدة جوانب وأبرزها هذا السؤال: ليش أرهق نفسي بقراءة عقل الآخر؟

  • Alanoud msays:

    13 مارس، 2023 في 11:49 م

    الله 👏🏻👏🏻 احسنتِ يا مشاعل اسلوبك و طريقة طرحك للموضوع رائعة و واقعية ، ياااه كثير من التصورات اللي كتبتيها مرت علي 🥺 حبيت شرحك للنصائح و صدقتِ في وصفها 👍🏻

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *