· ·

حين صافحت الثلج لأول مرة… ووقعت في غرام مكتبة

في فبراير من عام 2018، التقيت باريس للمرة الأولى.
كان لقاءً باردًا دافئًا في آنٍ معًا. المدينة ارتدت ثوبها الأبيض، والثلوج تكسو الأرصفة والميادين، بينما تملأ أدخنة المداخن سماءها برائحة الخشب المحترق.
لم تكن باريس التي تُرى في بطاقات البريد: كانت أكثر حميمية، أكثر صدقًا، وأقرب إلى الحلم.

كنت أمشي بلا وجهة. يدي متجمدة داخل جيوب معطفي، ورأسي مرفوع أستقبل ندفات الثلج بخفة قلب مكتشف. كانت الأرصفة تلمع تحت الأضواء الدافئة، والمقاهي تفوح منها رائحة القهوة والخبز الساخن. كأن الزمن هناك يتباطأ قليلًا ليمنح العابرين لحظات تأمل لا تُنسى.

صدفة جميلة قرب نوتردام

خلال إحدى جولات التسكع قرب كاتدرائية نوتردام، لفت نظري تجمهر صغير أمام متجر بسيط.
بدافع الفضول اقتربت، لأكتشف أنني أمام مكتبة “شكسبير أند كومباني”، واحدة من أكثر المكتبات شهرة وسحرًا في العالم.

لحظة غريبة بدت وكأنها فصل من رواية، أو كما لو أن باريس كانت تخبئ لي مفاجأة صغيرة خلف ستار الثلج.

دخلت المكتبة بخطوات خفيفة، وأحاط بي دفء خفي، خليط من رائحة الورق العتيق والخشب والزمن.

مكتبة لا تشبه سواها

مكتبة شكسبير لم تكن مجرد مكان لبيع الكتب، بل كانت عالمًا موازيًا.
رفوفها الخشبية، جدرانها الحجرية المكسوة بالاقتباسات، أغلفة الكتب العتيقة، الكراسي الخشبية، والرسائل المعلقة على الجدران، كل شيء كان ينبض بالحياة.

في الدور الثاني، كانت قطة سوداء صغيرة تستريح بهدوء بين الكتب.
بدت وكأنها صاحبة المكان، تعرف كل زاوية فيه، وكل رائحة. لا تخشى الزوار، ترفع رأسها عند مرورهم لتنظر إليهم بكسل نبيل، ثم تعود إلى استرخائها العميق.
كأنها، مثل الكتب، تحرس أسرار الزمن.

في ركن آخر من الدور الثاني، كانت هناك غرفة مخصصة لنقاشات الكتب.
مجموعة من الأشخاص من جنسيات مختلفة جلسوا حول طاولة خشبية قديمة، يقرأون قصيدة باللغة الإنجليزية، يناقشونها، يسجلون ملاحظاتهم بحماس في دفاترهم.
كانت أصواتهم خافتة لكنها مليئة بالشغف، كأنهم يعيدون خلق العالم بالكلمات.

لا أعرف بالضبط مساحة المكتبة، لكنني أجزم أنها لا تتجاوز 200 متر مربع.
ومع ذلك، كانت تحمل بين جدرانها آلاف السنين من القصص، والحكايا، والأرواح البشرية التي مرت وتركت أثرًا.

تاريخ مكتبة شكسبير: وطن للحالمين

تأسست النسخة الأصلية من مكتبة شكسبير عام 1919 على يد سيلفيا بيتش، وكانت ملاذًا أدبيًا لعمالقة مثل جيمس جويس وإرنست همنغواي.
وبعد الحرب العالمية الثانية، تأسست النسخة الحالية في الخمسينيات بواسطة جورج ويتمن، الذي جعل من المكتبة بيتًا مفتوحًا لكل عاشق للكلمة.

اليوم، مكتبة شكسبير أند كومباني ليست مجرد مكان لبيع الكتب، بل هي فلسفة حياة: أن تترك العالم بالخارج حين تدخل، وأن تؤمن بأن الكتب يمكن أن تبني عالمًا أفضل.

مقهى شكسبير: رئة أخرى للحلم

ملتصقًا بالمكتبة الصغيرة، يوجد مقهى شكسبير.
مقهى بسيط يغلب عليه اللون الأخضر، بأبوابه الخشبية وزجاجه العتيق.
هناك، جلست على كرسي خشبي، أحتسي قهوتي، وأراقب المارة عبر الزجاج.
قلبي كان مرهقًا من فيض الجمال والإحساس. كانت باريس كلها تختصر في تلك اللحظات: مدينة من الحلم والدفء والانتماء.

حب خاص لمكان خاص

أحببت باريس بكل تفاصيلها، شوارعها، ضبابها، مقاهيها.
لكنني أحببت مكتبة شكسبير بشكل خاص. فيها شيء استثنائي لا أعرف له وصفًا دقيقًا، لكنها لمست جزءًا داخليًا في روحي كنت أظنه قد نام إلى الأبد.

الحمد لله أنه قادني القدر لأن أمر صدفة بمنطقة نوتردام، لألتقي بهذه المكتبة، ولتلتقي روحي بمكانها المجهول.

 الكتب… والصدف التي تصنعنا

حين أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام الباردة، لا أتذكر فقط برد باريس أو رائحة قهوتها.
أتذكر قبل كل شيء دفء مكتبة صغيرة، قطة سوداء تتكئ على الكتب، وأرواحاً اجتمعت من كل بقاع العالم لتقرأ، تحلم، وتكتب قصصها.

علمتني هذه الرحلة أن أجمل الأشياء غالبًا ما تأتينا دون أن نطلبها.
أن الكتب ليست مجرد أوراق، بل بوابات لعوالم لا نهائية.
وأن الصدف، مهما بدت بسيطة، قد تغيّر فينا شيئًا للأبد.

مكتبة شكسبير "أرض الكتب العجيبة"

مكتبة شكسبير "أرض الكتب العجيبة"

you may also like

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *