لطالما أحببت تنوع عائلتي، جذوري اللبنانية والشامية والسعودية مزيج تغنيت فيه في كل مراحل حياتي، انفتاحنا على الثقافات العربية، وارتباط بعض أفراد عائلتي الكبيرة بأشخاص من أصول عربية مختلفة ميزنا في العديد من الأمور، تحديدًا في تقبلنا للآخر وتقبل الآخر لنا، كل الأطباق العربية مألوفة لنا، كل العادات والتقاليد مألوفة، تسمع اذنك العديد من اللهجات في نفس المكان وجميعها محل ترحاب، يتذوق لسانك تبولة بطريقتين وشيشبرك بطريقتين وتبدأ الجدالات حول أيهم أطيب التبولة السورية أم اللبنانية؟ الشيشبرك المقلي على الطريقة اللبنانية أم المطبوخ مباشرة باللبن على الطريقة السورية؟
وفيما يخص عائلتي الصغيرة كان لأمي القصيمية من أم لبنانية والتي تربت بين جدة وبيروت التأثير الأكبر على أسلوب حياتنا، لهجة مختلطة بين النجدية والحجازية، وجبات طعام غير مألوفة لصديقاتي، عادات يومية لا نصرح فيها عادة لأننا سنكون عرضة للسخرية، وماعندنا سباحين!
لعل أكثر ما أثر علي بطفولتي حكايات صديقاتي عن جداتهن وسباحينهن، كنت أتخيل هذه الجدة التي تخبئ تحت سجادتها حلوى وريالات وعندما تنتهي من رواية القصص توزعها على الأحفاد.
في طفولتي درست في مدارس حكومية في شرق مدينة الرياض، حيث المجتمع أكثر تحفظًا وانغلاقًا، تسكن العوائل الكبيرة بجانب بعضها أو على الأقل في أحياء قريبة من بعضها، تتمحور الحياة حول العائلة، اجتماعات يومية وأسبوعية، عزايم وتوجيبات وأفراح خاصة بالجماعة.
وبذكر الجماعة، أتذكر أني سمعتها للمرة الأولى في سنوات مبكرة من مرحلتي الابتدائية، وكنت أتساءل هل عمتي “لولو” هي الجماعة؟ أعتقد أن عقلي فسر الجماعة كمصطلح آخر للحب، وبما أنها عمتي القريبة والمفضلة ف هي الجماعة!
في سنوات مراهقتي، سمعت عشرات بل مئات القصص من خالاتي وأولادهم عن لبنان، بيروت وعرمون وسهرات الجبل والغطيطة، ومعاناة الكهرباء والسشوار وشارع الحمراء والروشة ومنقوشة الجبنة اللذيذة.
في عمر أكبر، بدأ يجذبني النشاط الثقافي في لبنان، بدأت أسمع عن مكتبات ظهرت بمجهودات شبابية، أفلام وثائقية صورت بكميرات بسيطة، أسماء دور النشر اللبنانية العريقة لعبت أيضًا دورًا في خيالاتي عن لبنان، وكنت أنتظر زيارتها!
في ٢٠١٦ وبشكل غير مخطط زرتها لعدة أيام في شهر فبراير، وعرفت حين وصلت أن لقائي بالجمال سيصبح روتينًا يومىًا.
أثناء هبوط الطائرة، تذكرت كل أغاني فيروز التي تحفظها ذاكرتي، استرجعت سؤال نزار “هل تعرفون معنى أن يسكن الانسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة”
توجهت مباشرة لجبل عرمون، حيث تسكن جدتي في شقة بشرفة كبيرة تطل على مسجد وكنيسة في نفس الوقت، ومن حولها بنايات كثيرة يسكن أهلها في البلكونات أكثر من الصوالين، كان الجلوس في البلكونة بعد غروب الشمس ومراقبة روتين الجيران نشاط أنتظره من لحظة استيقاظي.
يوم الجمعة كان يوم غريب، اختلطت أجراس الكنيسة بصوت آذان الجمعة، التفت على أمي مندهشة: ماما تسمعين؟
مطبخ شقة جدتي كبير وبسيط، بطاولة صغيرة في منتصف المطبخ وبلكونة كبيرة تستحق صباحات لبنان العطرة!
نستيقظ صباحًا، نضع ركوة القهوة التركي على عين الغاز، أفتح باب البلكونة، وتداعب النسمات وجهي وشعري.
ماما ميشو تعرفين; أنا عندي استعداد أعيش حياتي كلها في مطبخك!
جدتي رائعة، ليديها سحر تميز أي شي تلمسه، الأكل يزداد لذة والأشجار تزداد اخضرارًا والمكان يزداد جمالًا.
شارع الحمراء، الشارع الأكثر شهرة في بيروت، والأكثر جاذبية للسياح، فيه مقاهي ومطاعم ومحلات تجارية منوعة، سكنت في أحد فنادقه لمدة يومين، على يسار الفندق يقع مقهى يونس، المقهى الذي سمعت عنه الكثير من قبل، وافتتح فرعه في الرياض شارع الثلاثين في ٢٠١٥ تقريبًا.
افتتح مقهى يونس في ١٩٣٥، في شارع الحمراء واشتهر بجودة قهوته، كما كان ملتقى للأدباء والصحفيين، يمتاز فرع شارع الحمراء ببساطته، حيث حافظ على شكله الأول وأصالته.
طاولات على الرصيف مقابل دكان صغير، ستائر بلاستيكية تنسدل حال هطول المطر، والكثير من العابرين.
كنت أعلق كاميرتي على رقبتي عندما دخلته لأول مرة، قابلني رجل عجوز يجلس على الأريكة وسألني: صحفية؟
لا يا عم، زايرتكم من السعودية.
يا مية أهلا وسهلا.
قضيت أغلب أوقات فراغي في اليومين التاليين في مقهى يونس، وبالرغم من زيارتي لفرعه في الرياض وفرعه الأحدث في بيروت في مول ABC، الا أن فرع شارع الحمراء يبقى الأجمل والأبسط.
المقهى الآخر الذي تعثرت فيه أثناء سيري في شارع الحمراء، هو مقهى تاء مربوطة، المقهى الثقافي العربي بامتياز، من الأماكن القليلة التي مازالت تحافظ على طابعها العربي وأصالتها، ما ان تقترب منه حتى تسمع صوت فيروز أو أم كلثوم، تقترب أكثر وتشاهد الثقافة العربية معلقة على الجدران وفي المنتجات.
مكان جميل وحالم وهادئ وتتمنى زيارته كل يوم.
للأسف يبدو أني لم ألتقط أي صور له.
قهوة ليلى، من أجمل الأماكن التي زرتها في لبنان، فرع شارع الحمراء فيه شرفة كبيرة بطابع عربي لطيف وجميل، طعام لذيذ وأجواء ممتعة.
يتميز المطعم بمفارشه المطرزة بشكل يدوي، وديكوراته القريبة من جو البيوت اللبنانية.
اترك تعليقاً