الدراسة في الخارج كان حلم المراهقة والشباب، بنيت خطط مستقبلي على خيال لذيذ، وحين جاء الوقت اصطدمت بالواقع.
لم يكن الخيار متاحًا عند عائلتي في ذلك الوقت، لذا مضيت مع الخيار الوحيد المطروح ودرست في جامعة الملك سعود، وكان رفضي الداخلي أكبر وأكثر قوة مني، مضت سنوات الدراسة بدون تكوين علاقات صداقة حقيقية، اقتصر الأمر على صديقة وفي أحسن الأحوال أدخل في حديث عابر مع مجموعة من طالبات الدفعة.
تخرجت بعد عناء وليالي من البكاء والأرق، وبدأت في البحث عن وظيفة، تنقلت في عدة وظائف حتى يسر لي الله التخصص المهني في التسويق.
وعندما شعرت بالاستقرار، قررت العودة لمقاعد الدراسة، لم أشعر ولا مرة في مرحلة البكالريوس أني طالبة جامعية حقيقية، كنت مشغولة بمصارعة حلمي وخيالاتي غير القابلة للتحقيق، لذلك فكرت في التعويض بدراسة الماجستير.
قررت التقديم لدراسة الماجستير في جامعة الملك سعود قسم الإعلام الجديد، وبالرغم من درجاتي الضعيفة في اختبارات التقديم الا أني اجتزت المقابلة الشخصية بمهارة عالية، وقُبلت.
وبدأت أسرع رحلة تعليمية في حياتي، كُنت أقضي حياتي حرفيًا في السيارة، أستيقظ مبكرًا في السادسة، أذهب للعمل ثم للجامعة ٣ مرات في الأسبوع وأعود للمنزل عند العاشرة تقريبًا.
لم تكن التجربة سهلة ولم تكن أيضًا تجربة أكاديمية مشبعة بالنسبة لي، كانت أقرب لدراسة البكالريوس ولم يرضيني بحث التخرج الذي لا أتذكر أي تفاصيل عنه حاليًا :/.
انتهت رحلة الماجستير بمعدل مرتفع وعلاقات جيدة الحمدلله، ظلت الأمور مستقرة لسنتين تقريبًا ثم مررت بالصدفة على اعلان في تويتر عن ماجستير في علم الاجتماع في جامعة من أعرق جامعات العالم “جامعة بادوفا”، الدراسة باللغتين العربية والانجليزية، ولايشترط الحضور الفعلي طوال السنة، والمنهج منوع وغني وأعضاء هيئة التدريس أشخاص على قدر عال من العلم والاحترافية.
اتخذت قراري خلال يومين وبدأت بالاجراءات، ترجمة الشهادات للايطالية، التقديم على السفارة، مراسلة الجامعة، الدفع.
استغرق الأمر شهر ونصف تقريبًا وأصبحت بعدها جاهزة للانطلاق.
جهزت حقيبتي قبل الرحلة بساعات،وحينما حان الوقت، تناولت معطفي متجهة للمطار، توقفت وسحبت من الصراف الآلي آخر ٥٠٠ ريال كانت موجودة في حسابي.
لم تكن الحالة المادية والظروف بشكل عام مثالية لزيارة مدينة جديدة، لكني كنت أعيش صراع نفسي مخيف، كانت هذه المرحلة من حياتي مفصلية، ربما كانت رحلة الدراسة في بادوفا هروب من حياتي في ذلك الوقت، هروب من واقعي، من توقعاتي العالية، من مثاليتي .. لا أعرف.
في ٢٧ يناير ٢٠١٨ وصلت ميلان، استقبلتني بالأمطار والهواء البارد، فاق لقائي مع المدينة توقعاتي، سكنت في اوتيل ٣ نجوم، كانت اطلالة غرفتي بانورامية، بشرفة كبيرة، التقطت منها عشرات الصور لأمي.
كانت روما طبطبة لكل الأحداث الدرامية في ٢٠١٧، راجعت في كل دقيقة فيها أحداث العام الماضي، فكرت بكل ماخسرته والفرص المتاحة أمامي، كانت مشاعري متبلدة تمامًا اتجاه كل شئ، كنت أحاول جاهدة الغرق في اللحظة قدر المستطاع.
صراحة لا أتذكر الكثير عن ميلان، لكني أكلت تشوروز من البائعين المتجولين، وقصيت قصة شعر قصيرة جدًا ومشيت تحت المطر لساعات.
كانت رحلة بسيطة غريبة ومشاعرها مختلطة.
صور متفرقة من ميلان
بعد ثلاثة أيام في ميلان توجهت لمدينة بادوفا، مدينة جامعية صغيرة تقع بالقرب من فينيسيا، استقليت قطار متأخر، ووصلت لبادوفا قرب العاشرة، يغطي المدينة هدوء مخيف، تسمع همسك وبالكاد ترى يدك من شدة الظلام.
الفندق يقع بالقرب من محطة القطار وخارج المدينة تقريبًا (يبعد عن المنطقة الجامعية ١٥ دقيقة مشيًا على الأقدام) بمعايير المدينة الصغيرة تعتبر مسافة بعيدة.
فندق صغير غرفه دافئه وهذا تحديدًا ماكنت أحتاجه في تلك الليلة، ولغرفتي شرفة تطل على الشارع.
استيقظت في الخامسة، استعديت وخرجت لاستكشاف المنطقة مع شروق الشمس.
يقطع المدينة نهر طويل، يصب في أماكن متفرقة، بين البيوت والمحلات التجارية وفجأه يقطع طريق سيرك في منتصف المدينة.
كنت تقريبًا المحجبة الوحيدة ذلك الصباح، وبالرغم من قلة السياح لبادوفا الا اني لم أشعر بأي نظرات غريبة.
بعد ساعتين من استكشاف المدينة، ومع بداية هطول المطر، وصلت للجامعة، كان قلبي ينتفض من شدة التوتر والقلق.
كانت تنتابني نوبات هلع متقطعة، مع انقطاع نفس وخفقان في القلب وبرودة في الأطراف، حاولت جاهدة التظاهر بأن كل شي على مايرام، لكني متأكدة بأن وجهي الأصفر كان يقول الكثير.
اجتمعنا في القاعة الدراسية المخصصة للبرنامج، قاعة بشبابيك كبيرة تطل على حديقة خلفية.
بدأنا بالتعرف على بعضنا، طلاب ودكاترة من خلفيات ومدن مختلفة، المغرب وتونس وايطاليا والسعودية.
بعضنا آباء وبعضنا أمهات وبعضنا مازالوا طلبة في برامج دراسية أخرى، عدد كبير منا بما فيهم الايطاليين يتحدثون العربية بشكل متفاوت بالتأكيد.
كل شي في البرنامج الدراسي كان مميزًا، من ناحية الطلبة والمدينة وهيئة التدريس، دونت بشكل تفصيلي عن البرنامج هنا.
عودة للمدينة الصغيرة الساحرة، في بادوفا ساحة مركزية يجتمع فيها المزارعون صباحًا مع شروق الشمس، يعرضون بضاعتهم الطازجة، فواكه وخضرة وأعشاب ومنكهات، ينهمكون في العمل من السادسة حتى العاشرة تقريبًا.
يغلب على سوق المزارعين الجالية السيرلانكية، وصادفت ٤ أو ٥ عملوا من قبل في السعودية ويتحدثون العربية “شوي شوي”.
في منتصف الساحة أيضًا، يقع واحد من أشهر مقاهي ايطاليا “مقهى بيدروتشي” ملتقى المثقفين والطلاب منذ ١٨٣١م ، مقهى جميل بطراز كلاسيكي يشبه القصور، وطاقم لطيف ودود، احتضنني بيدروتشي ليالي عديدة، تأملت من مقاعده سماء بادوفا الصافية ودرست على طاولاته ساعات متصلة ومنحني أوقات جميلة برفقة صديقتي حنان.
التجول صباحًا في بادوفا من أجمل النشاطات التي قمت بها، الركض والهرولة والمشي تحت السماء الممطرة، وتأمل الأنهار العديدة التي تقطع المدينة وتذوق الفوكاشيا والكروسون والكابتشينو من المقاهي المنتشرة كانت لحظات ذهبية شكلت ذاكرتي عن بادوفا الجميلة.
ينتشر في أحياء بادوفا محلات الأنتيك، ساعات ومجوهرات وملاعق ودمى وأثاث ولوح وصور أثرية، عمرها يتجاوز العشر سنوات، أعجبتني فكرة التنقل بين ذاكرة العالم في دقائق واقتنيت بعض القطع الجميلة.
حديقة بادوفا وميدان وسط المدينة، وجهة خلابة ومكان ممتاز لقضاء الوقت بين المحاضرات، جلست على أسوار الحديقة لساعات وتأملت الماء الجاري والعشاق والطيور وتجار الدين، كل منهم يسعى في أمره وحياته.
دغدغت نسمات بادوفا الباردة أنفي وأغمضت بشكل متكرر عيني محاولة الاحتفاظ باللحظة في ذاكرتي لأطول وقت ممكن.
زرت فينيسا لساعات محدودة في المساء، لا يمكنني الحكم عليها، فينيسا لها موسمها وطقوسها، الشتاء لا يعطيها حقها والليل كذلك.
كانت بادوفا محطة من محطات حياتي التي سأظل ممتنة لها طويلا، أتذكرها أحيانًا بمشاعر سلبية حيث كان اكتئابي في أسوء وأصعب مراحله، وكنت أصارع أفكاري وقناعاتي ومبادئي التي شكلتها وعشت لها طوال حياتي، لكنها في نفس الوقت ساعدتني ودعمتني وهيأتني للمرحلة التالية، أثرتني فكريًا واجتماعيًا.
اختتمت رحلتي بتفوق لم أتوقعه، كانت ختامية طبطبت على التعب والارهاق وليالي السهر والتفكير، كتبت عنها في انستقرام، هنا
احتفلنا بتخرجي بطبق كبسة محترم من يدين خالتي الطيبة، تدبرنا مقاديرها من سوبرماركت ايطالي، ما أتذكر طعمه اليوم، لكن أتذكر طقوسها بحب وامتنان <3
في ايطاليا يحصل الخريجين على طوق ورد، كطقس متوارث ومشترك بين كل الجامعات الايطالية، للأسف ماصورت غير هذه الصورة غير المتقنة والسريعة.
قابلت سيدة باكستانية في مطار جدة وكانت تؤشر على طوق الورد بسعادة وتحاول اخباري قصة ما، بعد عناء فهمت أنها عادت من ايطاليا بعد حضور تخرج ابنتها من كلية التصاميم وكانت تحاول تهنئتي بلغتها.
في آخر ليلة في بادوفا كانت السماء صافية تحتضن النجوم كلوحة ساحرة، لأول مرة أشوف السماء وكأنها رسمة رسوم متحركة، كانت البناية المقابلة لنافذتي عالية ولونها أبيض بشباك دائري مفتوح، وخيوط الدخان تتسلل من المدفأة، كنت متعبة ولم أستطع التقاط صورة للمشهد الساحر، لكنه التصق بمخيلتي.
أخيرًا، شكرًا بادوفا وشكرًا لزملاء الدراسة وهيئة التدريس المميزة، وشكرًا لكل الأشخاص اللطفاء الذين التقيت بهم على قارعة الطريق وفي المقاهي والباصات، كنتم أبطال المرحلة الصعبة <3
صور متفرقة من الرحلة
التعليقات (2)
وفاءsays:
4 يونيو، 2022 في 11:20 ممرحبا مشاعل
وقعت بالصدفة على حسابك و مدونتك وسرني موضوع بادوفا. و من محاسن الصدف أنني اخطط مع العائلة لزيارة ايطاليا لأول مرة واتمنى ان تكون رحلة جميلة. لماذا تنصحيني؟
مشاعلsays:
18 يونيو، 2022 في 8:17 ماهلا وسهلا
زرت مدن قليلة في ايطاليا وكتبت عنها كلها في المدونة .. اتمنى لك رحلة جميلة وذكريات رائعة